رمضانيات من فاس: بلارج أو طائر اللقلاق الغائب
كثير منا يلاحظ غياب طائر اللقلاق الذي يسميه أهل فاس (بلارج أو بلعرج بسبب وقوفه كثيرا على رجل واحدة) عن المدينة، ويتحسرون على هذا الغياب، حيث أصبح تواجده نادرا لا فوق المآذن ولا فوق الأعمدة العالية ولا فوق مداخن المنازل، كما هو الشأن في مدينة فاس التي كان يهاجر إليها من بعيد أو من محميات القنيطرة التي تعتبر عاصمة بلارج في المغرب، هذا الغياب عن فاس يبدو وكأن شيئا ما فيها لم يعجبه ونفره منها، وبعض السكان لا يعرفون أن السبب في توقف هجرته يعود لارتفاع درجة حرارة مناخ الأرض الذي أثر على مناخ المدينة، زيادة على قلة العناية وعدم حماية المناخ العام بمقامه فيها. لكنه لا زال حاضرا في الأذهان إذ لا زال ترويج المعتقد أن غيابه إن لم يكن تعبيرا عن شؤم فهو تغييب للفرح)، وأنه طائر معشوق من طرف الإنسان عامة والأطفال خاصة، فهو حسب الأساطير يجلب أخبار السرور والبهجة لأي بيت حط بسطحه. زيادة على أنه يطهر البيئة من الثعابين والفئران والزواحف الضارة، وقد نسجت العائلات حوله عدة حكايات وأناشيد، اشتهرت بتردديها للأطفال عائلات عدة مدن وخاصة في مدينتي فاس ومراكش والقنيطرة، ومنها هذه الأنشودة التي وثقتها ذاكرة طفولتي في مدينة فاس، حينما كنت أخاطبه ضمن زمرة من أطفال الشغب ملوحين إليه بأيدينا صائحين بأعلى صوت كي يسمعنا
ها بلارج طار وجا ها عينو كحلة عوجا
ها منقارو كيف السيف ها السيف مضا منو
قال ليك بوجعران الفئران في الويدان
والقايد بوجعران مشى يشري بغلة
هربت ليه فوق السور تتعيط يا منصور يا ذباح الزرزور
هذه الأنشودة اللقلقية وثقتها ذاكرة بعض من استمتعوا برؤية هذا الطائر وربطوها بما بقي من آثار الأساطير في عدد قليل من المدن المغربية، وقد عثرت على بعضها في موقع "بهجاوة ونفتخر" من مراكش، حيث نفس الأنشودة الزجلية عن اللقلاق ولكن ميزتها أنها تردد بشكل أكمل، ويبقى لهذا الموقع الفضل في هذا التوثيق الذي أعتبره كاملا غير منقوص:
بلارج طار وجا عينو كحلة عوجا
منقارو قد السيف السيف مضا منو
ألالة طاطة أديك الغياطة
را حزامك طاح داوه ليك لرياح
رياح الصنصالة والموت الغدارة
والقايد بوجعران مشا يشري بغلة
بغلة حلالية طلعات فوق الصور تتعيط يا منصور
يا دباح الزرزور والزرزور فالويدان كالوه التيران
يا حمامة يا كورية عيطي لبابا خويا
بالسباني والكمية
ويلا شفتي موكا خطابة عرف بلارج هو العريس.
أما في محمية قرب القنيطرة ، فنسمع أطفالا يعبرون عن أسفهم من نقص أعداد بلعرج، ولا نعلم هل هذا نشيد قديم أم هو ظرفي، ولكنهم يرددونه كالآتي:
بلارج فين هو فين هو ما قرقر بجنحيه ما دوا
بلعرج هارب غضبان تحرق عشه ما بقى مكان
بلارج زين طار راح ما ثاني عود بان.
إن لبلارج هذا الطائر الكبير، حكايات وروايات، أغنت مخيال طفولتنا، وكم أسمعونا عنه من أقوال ومأثورات خرافية ، من قبيل:
- أنه يقتل صغاره.
- أنه طفل سرق من أهله، وحولته الساحرة إلى لقلاق، وأن عودة اللقلاق تعني عودة الطفل
- أن الزوج اللقلاق ذكر وأنثى، يعودان لنفس العش كل سنة ليتزاوجا من جديد، إخلاصا ووفاء لبعضهما ولتربية أفراخهما
- أن نزوله على سطح منزل، يعني أن هذا المنزل سيرزق طفلا وليدا
- أنه إذا كان أبيض الريش فهو يجلب النقاء إلى أفراد الأسرة، وإذا حط لقلاق أسود على سطح منزل، فهو يجلب وليدا معاقا
- أنه الطائر الوحيد الذي لا يكتفي بإطعام صغاره فقط بل يسهر على تربيتهم أيضا، بل يبقى على اتصال بوالديه يبر بهما ويساعدهما ويجلب لهما الطعام في سنوات كبرهم وعجزهم.
واعتمادا على ذاكرة الطفولة التي خزنت لهذا التراث الشفوي، فاللقلاق في المدينة كان ذا تأثير على التنشئة الاجتماعية، وشكل تراثا يوطد العلاقة بين الحاضر والماضي، كما كان يجذب السياح لرؤيته في مكان عال سواء في صومعة باب بوجلود أو في أعلى باب المكينة، يتأملون وقوفه على رجل واحدة أو وهو يحلق بعيدا ثم يعود حاملا في منقاره طعاما، أو وهو يحلق مراقبا من علوه لمآثر المدينة وحركة سكانها طيلة مدة إقامته وقبل أن يهاجر ليعود في فصل ربيع قادم.