دروس وعبر من إنجاز المغرب بمونديال قطر


دروس وعبر من إنجاز المغرب بمونديال قطر   صورة - صورة : و.م.ع
أفريكا 4 بريس/ محمد نجيب السجاع

      شهد العالم كله، بل ومعظم المحللين والمتتبعين والمهتمين، من تقنيين وصحافيين وجمهور عبر مختلف قنوات وشبكات التواصل العالمية باختلاف أنماطها ومشاربها، بأفضلية نسخة قطر 2022 من كأس العالم عبر التاريخ. مشككين في إمكانية إنجاز مثيل لها مستقبلا. وذلك لما قدمته من أطباق فرجوية كروية وفلكلورية وفنية متنوعة وممتعة. وما وفرته من بنيات تحتية ولوجيستيكية من الطراز الرفيع التي تعجز عدة بلدان أوروبية أو أمريكية أو أسيوية على توفيرها. بتنظيم محكم وناجح على جميع المستويات. وخاصة على المستوى الأمني. بتبنيها مبدأ السهر واليقظة والحكمة في منع وإزالة كل ما من شأنه المس بنجاح المونديال أو زعزعة راحة ضيوف المونديال بكل أطيافهم. وذلك ببصمة مغربية في المجال الأمني ساعدت أيضا في تحقيق هذا النجاح التنظيمي المنقطع النظير. كما استطاعت قطر تمرير عدة رسائل للعالم أجمع، عرفت من خلالها بالحضارة الإسلامية الضاربة في التاريخ، وعاداتها وتقاليدها بكل اعتزاز وافتخار مؤكدة للجميع، أن العالم قرية صغيرة يستوجب على الجميع إعمارها بالحب والتعاون والاحترام المتبادل رغم اختلاف الألوان والأديان والثقافات، لتحقيق حياة أفضل للجميع.

أما فاكهة هذا المونديال فكان، المنتخب الوطني المغربي بامتياز. حيث مثل الحصان الأسود لهذه النسخة أو مفاجأتها الكبرى أو قنبلة هذا المونديال، سموها كيف شئتم، المهم هو أن المنتخب المغربي أكمل إعداد "التورتة" التي هيأتها قطر بإضافته لكل المكملات التي كانت تحتاج إليها ليتم تقديمها في الأخير لكل العالم في طابق جميل شهي لا يشبع منه أحد. كيف لا وقد أمتع وأقنع فوق رقعة الميدان بل وتعداه إلى قلوب الجماهير العالمية، بعد ما استطاع تمرير عدة رسائل أخلاقية وإنسانية ورياضية، نستخلص منها عدة دروس وعبر، نذكر منها:

على المستوى الرياضي:

بعودتنا إلى المسار الجد إيجابي للمنتخب المغربي خلال هذه البطولة، يتأكد لنا أنه لا مجال للصدفة هنا ولا للمفاجأة، بل تتضح لنا جليا قيمة العمل الجاد المبني على تخطيط محكم، وفعال قبل المونديال ولو لمدة قصيرة، وأثناء المونديال، بمناقشة كل مباراة على حدة. مع التزام تام وانخراط مسؤول لكل اللاعبين وكل الطواقم من أجل تحقيق الهدف المسطر. وهوما أكدته النتائج التي تم تحقيقها بكل جدارة واستحقاق. فخلال الدور الأول، افتتح المنتخب المغربي المونديال بنزال قوي أمام منتخب كرواتيا وصيف النسخة السابقة ووقف له الند للند منتزعا تعادلا بصفر لمثله، بطعم الانتصار. أما النزال الثاني فكان ضد المنتخب البلجيكي ثالث النسخة السابقة والمصنف ثانيا على الصعيد العالمي، إلا أن مصيره كان الهزيمة بهدفين لصفر مع إلغاء الحكم لهدف مغربي ثالث بدعوى التسلل. حيث فاز المنتخب المغربي في هذا اللقاء نتيجة وأداء. ثم جاء الدور على المنتخب الكندي "سيد أمريكا الشمالية" خلال المباراة الثالثة والأخيرة، الذي انهزم أمام رجال الركراكي بهدفين لواحد. ليتأهل المنتخب الوطني المغربي إلى الدور الثاني (دور الستة عشر) متربعا صدارة مجموعته "مجموعة الموت حسب الكثيرين" بسبع نقاط في رصيده، بمعية المنتخب الكرواتي الذي حل ثانيا. ليصبح بذلك "البعبع" الذي يهابه الجميع، ويعمل على تفاديه في الدور المقبل. إلا أن الحظ عاكس صاحب لقب نسخة 2010، منتخب إسبانيا، ليسوقه قدره إلى مواجهة المغرب في دور ثمن النهائي. وبالفعل استطاع أسود الأطلس الذين أصبحوا يلعبون تحت شعار "دير النية، وللي جا باسم الله" غلق كل المنافذ أمام الهجوم الإسباني حتى  حطت المباراة بمحطة ركلات الترجيح التي أعطت التفوق للمنتخب المغربي الذي يمتلك لاعبين مهاريين، وحارس عالمي عملاق، إسمه"بونو" بحصة(3-0). ليضرب موعدا للمنتخب البرتغالي في دور الربع النهائي. هذا الأخير لم يكن أفضل حظا من الذين سبقوه، بعدما حاول اعتباطا التسجيل ضد لاعبين مصابين عضليا أو جسميا إلا أن أرواحهم تشع طاقة بشرية غير معهودة، حتى أجهز المهاجم الطائر "يوسف النصيري" على أحلام البرتغاليين وعلى رأسهم "الأسطورة رونالدو" بعد ما ارتقى عاليا فوق الجميع وسجل هدفا رأسيا يفوق الروعة. ليتأهل المنتخب المغربي إلى دور نصف النهائي كأول منتخب عربي وإفريقي يصل إلى هذا الدور في تاريخ البطولة. حيث واجه حامل لقب النسخة السابقة، منتخب فرنسا. ظن الجميع أن المغرب سيكون لقمة سائغة في فم أصدقاء الظاهرة "امبابي" و"كريزمان" بحكم أن لاعبيه يشكون من الإرهاق وكثرة الغيابات، إلا أن العكس هو الذي حصل، حيث كانت السيطرة لأسود الأطلس، فأهدر مهاجموه عدة فرص سانحة، كما تغاضى الحكم بمعية حكام غرفة الفار عن ضربتي جزاء واضحتين للمنتخب المغربي أمام ذهول واستغراب كل العالم باستثناء الفرنسيين. لينتهي اللقاء بفوز غير مستحق لمنتخب الديكة بهدفين لصفر، سجلا إثر خطأين دفاعيين. ليختم مشواره الناجح هذا بهزيمة ثانية في مباراة الترتيب التي جمعته بالمنتخب الكرواتي بحصة (2-0). بعدما أعطى المدرب "وليد الركراكي " الفرصة للاعبين الذين لم يتمكنوا من المشاركة في المباريات السابقة. ليخرج هذا المنتخب الرائع من هذه البطولة التي آل لقبها في النهائي للمنتخب الأرجنتيني بقيادة الأسطورة "ميسي"، رافعا رأسه ورأس العرب والأفارقة عاليا.

كما يجب الإشارة إلى روح المجموعة التي تميز بها الفريق طيلة البطولة. حيث كان اللاعبون يتصرفون داخل الميدان كما تجدهم خارجه، كعائلة واحدة، لا يستطيع أحد أن يتخلى عن زميله. فيدعم بعضهم بعضا بكل تفان، وبعيدا عن أي إحساس بالنجومية أو الأنانية وكل ذلك يصب في مصلحة الفريق.

دون إغفال قيمة ثقة المدرب واللاعبين بأنفسهم واقتناعهم بقدراتهم، وتوظيفها حسب ظروف وحيثيات كل مقابلة لتحقيق الهدف. وما الخطة الدفاعية التي اعتمدها المدرب المقتدر "الركراكي" أمام منتخبات مشهورة من حيث سطوتها الهجومية، ككرواتيا، وإسبانيا والبرتغال إلا دليل على ذلك. مؤكدا للتقنيين أن الخطة الدفاعية أيضا تصبح أكثر فعالية في بعض الأحيان مع استغلال الهجمات المضادة. ليعيدنا بالذاكرة إلى اللقبين العالميين اللذان حققهما منتخب إيطاليا خلال نسختي (1982و2006)، معتمدا على خطة دفاعية محضة وفعالة في المضادات الهجومية.

كما يستفاد من المدرب الركراكي، أن تحقيق النتائج الإيجابية لا يأتي بالاعتماد على الجانب التكتيكي والتقني والبدني للاعبين فقط، بل بالتحضير الذهني أيضا كقوة إضافية للفريق.

مع التأكيد على أمر هام: وهو أن المنتخب المغربي رفع أسهم المشاركة العربية والإفريقية في نهائيات كأس العالم عاليا. باعثا للأمل والثقة لكل المنتخبات العربية والإفريقية كي تحذو حذوه وترفع من سقف طموحاتها خلال المشاركات المونديالية المقبلة.

على المستوى المهني:

لا يمكن لأحد أن ينكر أويشكك في وطنية أفراد المنتخب الوطني، من جامعة وصية قائمة وساهرة على توفير كل صغيرة وكبيرة يحتاجها الفريق، أو طاقم صحي شغله الشاغل هو إعداد كل اللاعبين وخاصة المصابين منهم في أسرع الآجال ولو تطلب منهم ذلك سهر الليالي. الطواقم التقنية المرافقة للمدرب ومساعدته كل من موقعه حيث يكمل بعضهم عمل بعض من خلال عمل دؤوب ومتواصل لتفادي الخلل وسد الثغرات. ثم لاعبين أبانوا عن استماتة كبيرة في الدفاع عن ألوان القميص الوطني والعمل على رفع راية الوطن عاليا، بدون استثناء. فيكفي التذكير ب"الكوليادور" أمرابط، والعميد "سايس" ومزراوي وحكيمي وزياش وأملاح وأوناحي والنصيري الذين كانوا يلعبون المباراة تلو الأخرى رغم إصاباتهم أو إرهاقهم. جاعلين مصلحة المنتخب الوطني فوق كل اعتبار.

على المستوى الأخلاقي:

أول شيء استطاع المدرب الركراكي ترسيخه في هذا المونديال في عقول اللاعبين وكل المتتبعين هو إضافة كلمة "النية" إلى قاموس كرة القدم. ما دفع الكثيرين يبحثون عن المعنى الحقيقي للكلمة. فالكلمة متداولة عند العرب والمسلمين كثيرا. ولا يقتصر معناها عندهم في معنى واحد فقط. فعند المغاربة مثلا، عندما نقول: فلان نية. يقصد به أنه "ساذج". ونقول أيضا "دير النية وبات مع الحية" وهنا يقصد بها "دير الثقة في الله". أما عند الركراكي فلا يعني كن ساذجا، بل قبل كل مقابلة، عليك أن تنوي خيرا ثم تثق بنفسك وبعد ذلك تخلص في عملك وتتفانى في إنجازه، وفوق كل هذا أن تكون متوكلا على الله، ثم بعون الله وتوفيقه سيحالفك النجاح. وهو ما كان اللاعبون يجسدونه عند تسجيلهم للأهداف بقيامهم بالسجود شكرا لله.

بر الوالدين: يبدو أن مرافقة الأمهات وبعض الآباء لأبنائهم من اللاعبين المغاربة إلى قطر كان أمرا غاية في الأهمية، كونه أعطى للاعبين حافزا إضافيا لمضاعفة الجهد من جهة، وتكريما للوالدين من طرف أبنائهم من جهة أخرى. فأصبحت صورهم وهم يحتفلون مع أمهاتهم أو آبائهم تغزو وسائل التواصل الاجتماعي عبر العالم كله. حيث أبانوا عن خلق راقي وراسخ عند المغاربة والمسلمين عامة، يتجلى في تكريم وتبجيل الوالدين كاعتراف جزئي لكل ما قدموه من تضحيات مادية ومعنوية لرعاية وتنشئة أبنائهم. مقدمين في نفس الوقت دروسا واضحة لكل الذين يتخلصون من آبائهم وأمهاتهم بكل الطرق بحثا عن الاستقلالية والتحرر وخاصة في المجتمع الغربي.

حمل الراية الفلسطينية "عند كل احتفال كان بعض اللاعبين المغاربة يحملون الراية الفلسطينية ويلتقطون صورا بها إلى جانب الراية المغربة أمام الشاشات العالمية، وكأنهم يمررون رسالة مفادها أن المغاربة والمسلمون عامة لا يمكن أن يتخلوا عن أرض فلسطين وأولى القبلتين وثالث الحرمين لأنها في دمهم مهما يكن.

لم يقتصر حمل العلم الفلسطيني على بعض اللاعبين المغاربة فقط، بل انتشرت الأعلام الفلسطينية في مدرجات الملاعب القطرية التي كانت تحتضن مباريات المنتخب المغربي، تحملها الجماهير المغربية إلى جانب الأعلام الوطنية المغربية. مرددة في الكثير من الأحيان شعارات وأناشيد تخص أرض فلسطين الغالية.

على المستوى الإنساني:

لا يمكن إنكار الجمهور المغربي الذي حضر إلى قطرمن كل حدب وصوب لمؤازرة المنتخب الوطني المغربي، حيث اعتبر بحق ملح هذا المونديال بامتياز. فإلى جانب تشجيعه لمنتخبه وكل المنتخبات العربية والإفريقية المشاركة بطرق راقية وحماسية، ألهبت المدرجات وراقت للعديد من الأجانب، كان الجمهور المغربي آخر من يغادر الملعب، لأنه كان يساعد في جمع النفايات وتوضيب ما يجب توضيبه. كما كان يخلق الفرجة والمتعة أينما حل وارتحل خارج الملاعب، بتقديم لوحات فلكلورية مغربية أصيلة، تسوق لحضارة مغربية رائعة وضاربة في التاريخ. وكذا إعطاؤهم لصورة راقية للإنسان المغربي في تشبثه بتقاليده وحضارته وثقافته واتسامه بروح مرحة يقبل عليها الجميع، واتصافه بالتسامح وحب الخير للجميع مع سهولة تعايشه مع الجميع. الأمر الذي جعل عدة قنوات وشبكات التواصل الاجتماعي تنقل اهتمام الملايين من الناس من أقطاب العالم، وتساؤلاتهم عن بلد المغرب، تاريخيا وجغرافيا وسياحيا، مما سينعكس إيجابا على بلدنا اقتصاديا في المستقبل القريب.

فإذا استطاعت مجموعة محدودة من الرجال، تحقيق هذا الإنجاز الغير مسبوق، والذي كان حلما في السابق بتحليهم بالوطنية الصادقة وبتفعيلهم للمصطلح الحقيقي "للنية" من خلال إخلاصهم في عملهم ومهامهم، وتفانيهم في تمثيل بلدهم بأجمل صورة،خولت للمنتخب الوطني المغربي الارتقاء في سبورة الترتيب بل والقفز بعيدا إلى الأمام ،ليحتل الرتبة 11 عالميا كأول منتخب إفريقي وعربي ومتقدما على منتخبات أوروبية وأخرى عالمية ،فكيف سيصير حال مجتمعنا سياسيا واقتصاديا وفلاحيا وتربويا وصحيا وسياحيا...إذا ما تحلينا جميعا بهذه "النية" ووضعنا مصلحة وطننا فوق كل اعتباركما فعلوا؟

أكيد سيتغير مجتمعنا إلى الأفضل. لأن المجتمعات لا تبنى وترتقي بالثروات، ولكن بالرجال ذوو الهمم الشامخة. وما ذلك على المغاربة بعزيز من أجل مغرب أفضل.

اترك تعليقاً