فاس وأول المستشفيات بالمغرب
هناك كتابات ذات جودة وقيمة علمية وتاريخية، تناولت موضوع الأمراض والأوبئة وطرق علاجها في العهود القديمة وحكم الدول المتعاقبة على المغرب، وهناك كتابات لوحظ فيها ما لاحظته شخصيا، وهي تؤرخ للطب ومهن الطب والتطبيب وتطوره في المغرب، وكيف انحازت إلى تلميع صورة المستعمر الفرنسي في هذا المجال، إلى درجة أنك تشم بين سطور ما كتبوه، وكأن المغاربة لم يحظوا بأي نوع من العلاج من مختلف محن الأوبئة والأمراض التي حلت بالمغرب عبر التاريخ، بل وذهب البعض إلى القول أن مدينة فاس أيام كانت عاصمة لم تكن فيها مستشفيات إلا تلك التي أنشأها الاستعمار.
فالثابت من المصادر التاريخية التي تؤرخ للأمراض وطرق علاجها في المغرب، أنها لا تخفي ولا تنفي أن المغاربة كانوا يعالجون مرضاهم بكثير من الطرق والوسائل الطبيعية وفي المشافي ومنها المشافي الثابتة التي تنشأ في المدن، والمتنقلة التي تجوب القرى والجبال والصحاري، والصحيح أنه كان من بين المغاربة، من اختار العلاج بالوسائل الروحية والدينية وبواسطة الفقيه من خلال تلاوة القرآن على المريض أو بكتابة الحرز الواقي أو بالكتابة في أواني منزلية. ومنهم من اختار العلاج بالحيوانات والطيور وحتى الحشرات، ومنهم من كان يفضل العلاج بالاستحمام في العيون والحامات، ومنهم من كان يلتجئ للحجامة أو للكي -إلا أن الكي كان يعتبر آخر ما يمكن العلاج به- وفي بعض العلاجات ثبت بحق أن الطب التقليدي كان فيها أنفع وأجذر، ومنها تجبير الكسر أو فك العظام، وكم من الحالات عولجت كسورها في المستشفى -أيام الحماية وأوائل الاستقلال- ولم تعالج بشكل سليم، إلى أن يعيد المعالج التقليدي كسر ذلك العظم من جديد وإعادة تجبيره بشكل أسلم. كل هذا ثابت وصحيح، بل وعشنا مع بعض هذه العلاجات في صبانا وفي آخر سنوات تواجد الاستعمار.
لكن ومنذ عهد الموحدين تبث أنه كان للمغرب أطباء، وقدر عددهم الأستاذ محمد المنوني 30 طبيبا كان أشهرهم أبو بكر محمد بن عبد الملك بن زهر "الحفيد" *1 وفق ما أوردته مجلة دعوة الحق عدد 318 (ازدهار العلوم في عصر الموحدين).
وللذكر والاستشهاد، ثبت أن أقدم شهادة علمية في مجال الطب خرجت من القرويين، وتأكد رسميا "أنها أقدم شهادة في العالم، حيث صدرت سنة 603 هجرية كما هو مدون عليها، وهو يوافق 1702م. ولا توجد أي شهادة في العالم أقدم من هذا التاريخ * 2 ( تيلي ماروك، ماي 2020).
وللاستشهاد أيضا على أن الطب والأطباء والمستشفيات، كانت موجودة بالمغرب منذ القدم لمواجهة الأمراض والأوبئة التي أصابت الساكنة وعلاجها على يد أطباء مهرة، أن فترة الموحدين شهدت نوعا من التنافس ساهمت فيها عدة عوامل من أبرزها سياسة الأمراء في تشجيع الطب والأطباء، بل وكان الطب يدرس في عهدهم مع نظام التعليم الإجباري وتعميم المؤسسات العلمية التي أصبحت تعج بها الحواضر الكبرى (مراكش وفاس) وبهذا الصدد ترجع المصادر، أن الفضل في إدخال علم الطب والفلسفة يرجع إلى إسحاق بن عمران، وإلى أمراء المرحلة مثل المنصور أبو يوسف يعقوب الذي أنشأ مستشفى بمراكش خلال فترة حكمه بين 580 هجرية - 595 هجرية وما أعقب ذلك من منشآت طبية وخاصة في الحواضر الكبرى.
لكن في عهد الحماية، تم التنكر لكل ذلك وكل ما تبعه من تطور في الطب وعلاج الأمراض والأوبئة عبر تاريخ المغرب، فاعتمد المستعمر الفرنسي لطمس معالم هذا الطب والتطبيب، أساليب ما أسماه نجاعة مكافحة الأوبئة والأمراض بمدينة فاس، والتي تعددت بين محاربة مهن التطبيب السائدة، وعزل المرضى من المغاربة في المخيمات خارج المدينة بكل أنواع الاستبداد. وهذه من الأمور التي جعلت السكان يتعاملون بحذر من الطب الفرنسي أو يرفضونه، خاصة في عمليات التلقيح التي اكتشفوا أن لقاحاتها الجيدة تعطى للفرنسيين والفاسدة أو الوهمية منها تعطى للمغاربة، شأنها شأن العلاجات الدوائية التي لم تكن في أغلبها دواء. ومثل هذا عشناه أيضا في طفولتنا مع ما كان يسمى أمراض العيون حيث كانت القطرات التي تعطى لنا في أبواب محلات العسة، ليست إلا ماء وملح مذاب (محل العسة بالقطانين بفاس) ولا ننفي أو ننكر أن أمراضا أخرى تم علاجها في فترة الحماية بأسلوب أنجع مثل القراع Favus ، ومثل محاربة الحشرات الضارة والمستنقعات والتي كانت تنتقل عبر التجمعات وفي الأسواق الأسبوعية وبعض اللقاحات في المدارس ودور الراهبات في العناية بالأطفال والرضع.
وكل هذا لا ننكره، لكن هناك حقيقة مغيبة عن عمد أن المستعمر أراد أن يظهر بتحايله وتبجحه وتمننه، أن تطبيبه أنجع وأفضل، سعيا منه لاستمالة تعاطف السكان، وهو ما لم يكن كذلك إلا بالنسبة للفرنسيين والمبشرين والعسكريين ولفئة محظوظة من اليهود، كما من الخونة المؤيدين والموالين للمستعمر وفق ما كشفت عنه بعض تقارير ومراسلات فرنسية.
فمثل حالات الاستشفاء والطب والتطبيب هذه، كنت أقف على بعضها أثناء إنجازي للبحث الإعلامي حول أبواب مدينة فاس التاريخية أو عند النبش في تراثها المائي، حيث كانت تطالعني بين سطور مراجع البحث أو في حواشيها، إشارات تتعلق بالمجال الطبي بهذه المدينة ، في أحقاب زمنية مختلفة وقبل دخول الاستعمار، كما في فترة الحماية وخاصة في السنوات الأولى وما عرفته من مقاومة مدنية. فوجدتني أعود إليها لمحاولة التعريف بالمنشآت الطبية الاستشفائية بفاس، وفق ما أملاه التسلسل الزمني لإنشاء هذه المؤسسات في بعض المدن المغربية - وإن كنت لا أتناول الأحداث وسوء معاملة المرضى من طرف المستعمر التي أشرت إليها ، فذلك فقط لأستطيع أولا، التركيز وإفادة أن التطبيب مورس في المغرب قبل دخول الاستعمار -ولو أنه يوصف بالتطبيب التقليدي بالمعنى القدحي للكلمة- وأستطيع الجزم أن أول مستشفى كان في فاس العتيقة لعلاج الأمراض البدنية وإصابات الأوبئة، هو الذي أحدث خارج باب الفرج من عدوة القرويين وخارج باب المخفية من عدوة الأندلس لعلاج الجذام، *3. وهذا ابن أبي زرع يشير في كتابه القرطاس " إلى انتقال جذمي فاس أيام المجاعة والفتنة الممتدة من سنة 619 هجرية إلى 637 هجرية إلى الكهوف الواقعة خارج باب الخوخة" وهذه الفترة تدل على أنه في هذه الكهوف، كان أول مستشفى قبل هذا التاريخ، وهذا ما يعني أنه ليس هو مستشفى سيدي فرج الذي يعتبر أول مستشفى للأمراض العقلية والنفسية وليس للأمراض البدنية، والذي كان بدوره متواجدا قبل الاستعمار، وهذا ما يدل على أن أول مستشفى بفاس وفي جميع الحالات، لم يكن من إنشاء المستعمر، وإنما هو المستشفى الذي أنشأه السكان قبل أن ينقل إلى مستشفى برج الكوكب الذي تحول بعد علاج الجذام إلى علاج السعال الديكي، وهيكلته ورعته سلطات الدول المتعاقبة على حكم المغرب أو هو مرستان سيدي فرج للأمراض العقلية والنفسية والذي بني في عهد الموحدين.